فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

قوله: {الله الذي خَلَقَكُمْ} يجوز في خبر الجلالة وجهان، أظهرهما: أنه الموصولُ بعدها. الثاني: أنه الجملةُ منْ قوله: {هَلْ من شُرَكَآئكُمْ مَّن يَفْعَلُ} والموصولُ صفةٌ للجلالة. وقَدَّر الزمخشري الرابطَ بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرًا فقال: وقوله: {منْ ذلكم} هو الذي رَبَط الجملةَ بالمبتدأ؛ لأنَّ معناه منْ أفعاله. قال الشيخ: والذي ذكره النحويون أنَّ اسمَ الإشارة يكون رابطًا إذا أُشيرَ به إلى المبتدأ، وأمَّا ذلك هنا فليس إشارةً إلى المبتدأ لكنه شبيهٌ بما أجازه الفراءُ من الربط بالمعنى، وخالفه الناسُ، وذلك في قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ منكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] قال: التقدير: يتربَّصُ أزواجُهم. فقدر الرَّبْط بمضافٍ إلى ضمير الذين فحصل به الربطُ، كذلك قدَّر الزمخشريُّ {من ذلكم} منْ أفعاله بمضافٍ إلى الضمير العائد إلى المبتدأ.
قوله: {منْ شركائكم} خبرٌ مقدمٌ و{منْ} للتبعيض. و{مَنْ يَفْعَلُ} هو المبتدأ و{منْ ذلكم} متعلّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ منْ {شيء} بعده؛ فإنَّه في الأصل صفةٌ له. و{منْ} الثالثةُ مزيدةٌ في المفعول به؛ لأنه في حَيّز النفي المستفاد من الاستفهام. والتقدير: ما الذي يَفْعَلُ شيئًا منْ ذلكم منْ شركائكم. وقال الزمخشري: ومنْ الأولى والثانية كلُّ واحدةٍ مستقلةٌ بتأكيدٍ لتعجيز شركائهم وتجهيل عَبَدَتهم. قال الشيخ: ولا أَدْري ما أراد بهذا الكلام؟ وقرأ الأعمش {تُشْركون} خطابًا.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر بمَا كَسَبَتْ أَيْدي النَّاس ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَملُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ (41)}.
قوله: {بمَا كَسَبَتْ} أي بسبب كَسْبهم. والباءُ متعلقةٌ ب {ظَهَر} أو بنفس الفساد، وفيه بُعْدٌ.
قوله: {ليُذيقَهم} اللامُ للعلة متعلقةٌ ب {ظهر}. وقيل: بمحذوفٍ أي: عاقبهم بذلك ليُذيقَهم. وقيل: اللامُ للصيرورة. وقرأ قنبل {لنُذيْقَهم} بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين الْقَيّم منْ قَبْل أَنْ يَأْتيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ منَ اللَّه يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}.
قوله: {لاَّ مَرَدَّ لَهُ} المَرَدُّ مصدر رَدَّ. و{من الله} يجوز أن يتعلَّقَ ب يأتي أو بمحذوفٍ يدلُّ عليه المصدر أي: لا يَرُدُّهُ من الله أحدٌ. ولا يجوز أن يعملَ فيه {مَرَدّ} لأنَّه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ؛ إذ هو من قبيل المطوَّلات.
{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ وَمَنْ عَملَ صَالحًا فَلأَنْفُسهمْ يَمْهَدُونَ (44)}.
قوله: {فَعَلَيْه كُفْرُهُ} و{فلأَنْفُسهم يَمْهَدون} تقديمُ الجارَّيْن يُفيد الاختصاصَ بمعنى: أن ضَرَرَ كفر هذا ومنفعةَ عمل هذا لا يتعدَّاه.
{ليَجْزيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات منْ فَضْله إنَّهُ لَا يُحبُّ الْكَافرينَ (45)}.
قوله: {ليَجْزيَ} في متعلَّقه أوجهٌ، أحدها: {يَمْهدون}. والثاني {يَصَّدَّعون} والثالث محذوف. قال ابن عطية: تقديره ذلك ليجزيَ. وتكون الإشارةُ إلى ما تقرر منْ قوله: {مَنْ كفر} و{مَنْ عمل}. وجعل الشيخُ قسيمَ قوله: {الذين آمَنُوا وَعَملُوا} محذوفًا لدلالة قوله: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} عليه. هذا إذا عَلَّقْنا اللام ب {يَصَّدَّعون} أو بذلك المحذوف قال: تقديرُه ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات منْ فَضْله والكافرين بعَدْله. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في ظهر:
جمع الظَّهْر: ظُهُور.
ورجل مُظَهَّر: قوىّ الظهر، وظَهر: يشتكى ظهره.
وَجَمَل ظَهيرٌ وظهْرى: قوىّ الظهر، وناقة ظهيرة، وقد ظَهَرَ ظَهَارَةً.
وقولُه تعالى: {الَّذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الظهر استعارة تشبيهًا للذنوب بالحمْل الذي ينوءُ بحامله.
واستعير لظاهر الأَرض فقيل: ظَهْر الأَرض وبطنها، قال تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرهَا من دَآبَّةٍ}.
وقال تعالى: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَني ءَادَمَ من ظُهُورهمْ ذُرّيَّتَهُمْ} يعنى حين أَبرزهم من ظهر آدم إلى صحراء الوجود للعهد والميثاق.
وقال تعالى: {إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعنى من الشحم واللَّحم.
وقال: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورهمْ}.
وقال تعالى: {وَلَيْسَ الْبرُّ بأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ من ظُهُورهَا} وقال: {وَهُمْ يَحْملُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورهمْ}.
ويعبّر عن المركوب بالظَّهْر.
والظَّهرىُّ أَيضًا: ما تجعله وراءَ ظهرك فتنساه، قال تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظهْريًّا}.
وظهر عليه: غلبه.
وأَظهره الله، قال تعالى: {إنَّهُمْ إن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ}.
وظاهرته: عاونته، من ظاهر بين ثوبين ودرعين: جعل كلًا منهما ظهرًا للآخر، {وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْه} أي تعاونا.
وقد ظاهر من امرأَته، وتظاهر منها.
والظَّهير: المُعين، وقوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافرُ عَلَى رَبّه ظَهيرًا} أي مُعينا للشيطان على الرّحمان.
وقال أَبو عُبيدة: الظهير هو المظهور به، أي هيّنًا على ربّه كالشىء الذي خلّفته وراءَ ظهرك، من قولك: ظهرتُ بكذا، أي خلّفتُه ولم أَلتفت إليه.
والظّهار: أَن يقول الرّجل لامرأَته: أنت علىّ كظهر أُمّى.
قال تعالى: {الَّذينَ يُظَاهرُونَ منكُمْ مّن نّسَآئهمْ}.
وقرىء: {يَظَّاهَرُونَ} أي يَتَظَاهَرُون فأُدغم، و{يظَّهَّرُونَ} وظَهَر الشىء ظُهورًا أَصله أَن يحصل الشىء على ظَهر الأَرض فلا يخفَى وبَطَنَ: إذا حصل في بُطْنان الأَرض فيخفَى، ثمّ صار مستعملًا في كل بادٍ بارز للبصر والبصيرة.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ عَن الآخرَة هُمْ غَافلُونَ} أي يعلمون الأُمور الدّنْيَويّة دون الأُخرويّة.
والعلمُ الظاهر والباطن يشار بهما إلى المعارف الجَليَّة والمعارف الخفيّة، وتارة إلى العلوم الدّنيويّة والعلوم الأُخرويَّة.
وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر} أي كثر وفشا.
وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} يعنى بالظاهرة ما نقف عليها، والباطنة مالا نعرفها.
وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتي بَارَكْنَا فيهَا قُرًى ظَاهرَةً} وحُمل ذلك على ظاهره.
وقوله: {فَلاَ يُظْهرُ عَلَى غَيْبه أَحَدًا} أي لا يُطلْع عليه.
وقوله: {ليُظْهرَهُ عَلَى الدّين كُلّه} يصحّ أَن يكون من البُرُوز، وأَن يكون من المعاونة والغلبة، أي ليغلّبه على الدّين كلّه.
وصلاة الظُهْر لكونها في أَظهر الأَوقات.
والظَّهيرة: وقت الظهر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}.
{ثُمَّ} حرقٌ يقتضى التراخي؛ وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خَلْقه إياك أن يرزقك؛ كنتَ في ضعف أحوالك ابتداءَ ما خَلَقَكَ، فأثبتك وأحياك من غير حاجةٍ لك إلى رزقٍ؛ فإلى أن خرجتَ من بَطْن أُمّك: إمَّا أن كان يُغْنيكَ عن الرزق وأنت جنينٌ في بطن الأم ولم يكن لك أكلٌ ولا شُرْبٌ، وإمَّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق- إنْ حَقَّ ما قالوا: إن الجنينَ يتَغَذَّى بدم الطمث. وإذا أخرجك من بطن أمك رَزَقَكَ على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فَيَسَّرَ لكَ أسبابَ الأكل والشرب من لَبن الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق للسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره.
{ثُمَّ يَميتُكُمْ} بسقوط شهواتكم، ويميتكم عن شواهدكم.
{ثُمَّ يُحْييكُمْ} بحياة قلوبكم ثم يحييكم بربّكم.
ويقال: من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ومنها ما هو شهود الرزاق.
ويقال: لا مُكْنَةُ لك في تبديل خَلْقكَ، وكذلك لا قدرةَ لَكَ على تَعَسُّر رزقك، فالمُوَسَّعُ عليه رزقُه-بفَضْله سبحانه. لا بمناقب نَفْسه، والمُقَتّرُ عليه رزقُه بحُكْمه سبحانه. لا بمعايب نَفْسه.
{هَلْ من شُركَائكُم مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُم مّن شَىْءٍ} هل من شركائكم الذين أثبتموهم أي من الأصنام أو توهمتموهمٌّ من جملة الأنام. مَنْ يفعل شيئًا من ذلك؟ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} تنزيهاُ له وتقديسًا.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر بمَا كَسَبَتْ أَيْدي النَّاس ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَملُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ (41)}.
الإشارة من البرّ إلى النَّفْس، ومن البحر إلى القلب.
وفسادُ البرّ بأَكْلْ الحرام وارتكاب المحظورات، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشَّر والفسْق. وغير ذلك. وعَقْدُ الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب، كما أَنَّ العَزْمَ على الخيرات قبل فعْلها من أعظم الخيرات.
ومن جملة الفساد التأويلاتُ بغير حقّ، والانحطاطُ إلى الرُّخَص في غير قيامٍ بجَدٍ، والإغراق في الدعاوَى من غير استحياءٍ من الله تعالى.
{ليُذقَهُم بَعْضَ الذي عَملَّوا لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} بعض الذي عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب، وعدم التأسُّف على ما فاته من الحقّ.
{قُلْ سيرُوا في الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْركينَ (42)}.
{يَسيُروا} بالاعتبار، واطلبوا الحقَّ بنعت الأفكار.
{فَانظُروا} كيف كانت حال مَنْ تقدَّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حُكْمَكُم في جميع الأحوال. {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْركينَ} كانوا أكثرَهم عددًا، ولكن كانوا في التحقيق أَقلَّهم وزنًا وقَدْرًا.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين الْقَيّم منْ قَبْل أَنْ يَأْتيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ منَ اللَّه يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}.
أَخْلص قَصْدَك وصدْقَ عَزْمَكَ للدين القيّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. فَمنْ لم يتأدب بمَنْ هو إمامُ وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خُسْرَانُه أَتَمَّ من ربْحه، ونقصانُه أَعَمُ من نَفْعه. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
قال مجاهد اذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد فيحبس بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ثم قال أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر وقال عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر أما إني لا أقول لكم بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء وقال قتادة أما البر فاهل العمود وأما البحر فاهل القرى والريف قلت وقد سمي الله تعالى الماء العذب بحرا فقال هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج وليس في العالم بحر حلو واقفا وإنما هي الانهار الجارية والبحر المالح هو الساكن فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه وقال ابن زيد ظهر الفساد في البر والبحر قال الذنوب قلت أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها فيكون قوله ليذيقهم بعض الذي عملوا لام العاقبة والتعليل وعلى الاول فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يحدثها الله في الارض بمعاصي العباد فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة كما قال بعض السلف كل ما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة والظاهر والله أعلم إن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى: {ليذيقهم} بعض الذي عملوا فهذا حالنا وإنما إذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة ومن تأثير معاصي الله في الارض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكون ومن شرب مياههم ومن الاستسقاء من أبيارهم حتى أمر أن لا يعلف العجين الذي عجن بمياههم لنواضح الابل لتأثير شؤم المعصية في الماء وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما ترى به من الآفات وقد ذكر الامام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال وجدت في خزائن بعض بني أمية حنطة الحبة بقدر نواة التمرة وهي في صرة مكتوب عليها كان هذا ينبت في زمن من العدل وكثير من هذه الأفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء انهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها وإنما حدثت من قرب وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق فقد روي الترمذي في جامعه عن النبي انه قال خلق الله آدم وطوله في السماء ستون ذراعا ولم يزل الخلق ينقص حتى الآن فاذا أراد الله أن يطهر الارض من الظلمة والخونة والفجرة ويخرج عبدا من عباده من أهل بيت نبيه فيملأ الارض قسطا كما ملئت جورا ويقتل المسيح اليهود والنصارى ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله وتخرج الارض بركاتها وتعود كما كانت حتى أن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها ويكون العنقود من العنب وقر بعير ولبن اللقحة الواحدة يكفي الفئام من الناس وهذا لأن الارض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر ولاريب أن العقوبات التي أنزلها الله في الارض بقية آثارها سارية في الارض تطلب ما يشاء كلها من الذنوب التي هي آثار تلك الجرائم التي عذبت بها الامم فهذه الآثار في الارض من آثار العقوبات كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم فتناسب كلمة الله وحكمة الكوني أولا وآخرا وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية والأخف للأخف وهذا يحكم سبحانه بين خلقه في دار البرزخ ودار الجزاء وتأمل مقارنة الشيطان ومحله وداره فانه لما قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره وعمله وقوله ورزقه ولما أثرت طاعته في الارض ما أثرت نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته وكذلك مسكنه لما كان الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة.
فصل:
ومن عقوباتها انها تطفي من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن فان الغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كمال يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديث وأشرف الناس وأعلاهم قدر وهمة أشدهم غيرة علي نفسه وخاصته وعموم الناس ولهذا كان النبي أغير الخلق علي الامة والله سبحانه أشد غيرة منه كما ثبت في الصحيح عنه انه قال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني وفي الصحيح أيضا عنه انه قال في خطبة الكسوف يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو ترني أمته وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب اليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه فجمع في هذا الحديث بين الغيرة التي أصلها كراهة القبائح وبنضها وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والاحسان والله سبحانه مع شدة غيرته يحب إن يعتذر اليه عبده ويقبل عذر من اعتذر اليه وانه لايؤاخذ عبده بارتكاب ما يغار من ارتكابه حتى يعذر اليهم ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه إعذارا وإنذارا وهذا غاية المجد والاحسان ونهاية الكمال فان كثيرا ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدة الغيرة على سرعة الايقاع والعقوبة من غير إعذار منه ومن غير قبول العذر ممن إعتذر اليه بل قد يكون له في نفس الامر عذر ولاتدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره وكثير ممن تقبل المعاذير يحمله على قبولها قلة الغيرة حتى يتوسع في طريق المعاذير ويرى عذرا ما ليس بعذر حتى يعذر كثير منهم بالعذر وكل منهما غير ممدوح على الاطلاق وقد صح عن النبي انه قال أن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالتي يبغضها الله الغيرة من غير ريبة وذكر الحديث وانما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر فيغار في محل الغيرة.
ويعذر في موضع العذر ومن كان هكذا فهر الممدوح حقا ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلها كان أحق بالمدح من كل أحد ولايبلغ أحد إن يمدحه كما ينبغي له بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته ومن وافق الله في صفه من صفاته قادته تلك الصفة اليه بزمامه وأدخلته على ربه وأدنته منه وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له فانه سبحانه رحيم يحب الرحماء كريم يحب الكرماء عليم يحب العلماء قوى يحب المؤمن القوي وهو أحب اليه من المؤمن الضعيف حتى يحب أهل الحياء جميل يحب أهل الجمال وتر يحب أهل الوتر ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلا انها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات وتمنعه من الاتصاف بها لكفي بها عقوبة فان الخطر تنقلب وسوسة والوسوسة تصير إرادة والارادة تقوي فتصير عزيمة ثم نصير فعلا ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة وحينئذ يتعذر الخروج منهما كما يتعذر عليه الخروج من صفاته القائمة به والمقصود انه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس وقد تضعف في القلب جدا لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره واذا وصل الى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه اليه ويحثه عليه ويسعي له في تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه فاذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وعن ولده فإذا تكسرت طمع فيها عدوه. اهـ.